U3F1ZWV6ZTE2NDAzNzE1MDYwMTE2X0ZyZWUxMDM0ODg4MTkwMzEzNw==

الطب

 الطب 
       عندما تُذْكَر مصر القديمة يَرد إلى الذهن الإنجازات الكبيرة في مجالات الفنون والعمارة، بينما تغيب إنجازات أخرى لا تقل أهمية في مجالات العلوم، وأهمها الطب، والصيدلة، والفلك، والرياضيات، والهندسة..إلخ.
 
         إن إبداعات الحضارة المصرية في كافة مجالات الحياة تتطلب دون شك أجسادًا سليمة معافاة، إلى جانب عقول متقدة تستطيع أن تنهض بعبء هذه الإبداعات، فالمجتمع الذي يتسم بسلامة أفراده عقليًّا وجسديًّا سوف يتسم بإنجازات على نفس المستوى من سلامة المجتمع.
 
      
 والمجتمعات المتحضرة تقاس بمعايير كثيرة من بينها السلامة البدنية، الأمر الذي يتطلب طبًّا متقدمًا، فالطب يولد لتأمين حياة الإنسان من أخطار الأمراض، ومن ثم فقد أصبح يمثل قطاعًا مهمًّا في حياة البشر.
   ومن خلال الوثائق الطبية التي تركها لنا المصري القديم يمكن أن نتبين أنه أبدى اهتمامًا شديدًا بمعرفة أسباب المرض وتشخيصه وعلاجه، ومنذ بداية ظهور الإنسان على سطح الأرض بدت حاجته واضحة للتعامل مع الأمراض التي تصيبه، والتي تتطلب علاجًا يشفي منها.
  
وفي مراحل مبكرة من عمر الإنسان عرف على سبيل المثال كيف يستخدم الكحل الأخضر (الملاخيت) لعلاج بعض أمراض العيون، كما ورد في بردية "إيبرس" الطبية منذ الأسرة الأولى على أقل تقدير، وكما ورد في البردية المذكورة فقد أبدى الملكان "ر" و"دن" اهتمامًا بالطب، حيث أُشير إلى بعض الوصفات الطبية لعلاج بعض الأمراض، وأُشير كذلك إلى أن الملك "عحا" من الأسرة الأولى كذلك كان يلم ببعض المعلومات عن الصيدلة في بعض معابد مصر السفلى مثل معبد باستت (في الزقازيق)، حيث كان هناك كاهن يحمل لقب "رئيس الأطباء".

 
بردية إيبرس
 
 
المؤسسات التعليمية الطبية
 
        لم تكن هناك مؤسسات محددة لتعليم الطب، ولكن هذا الأمر كان يجري في المعابد في المكان الذي يعرف باسم "pr-cnh"(بر-عنخ)، أي:  "بيت الحياة"، حيث تعتبر  مؤسسة تعليمية بحثية تتعامل مع جوانب علمية متعددة من بينها الطب، كما كانت بمثابة مكتبة تضم أهم المعارف آنذاك.
 
ولقد وجدت مدارس الطب في المعابد الكبرى والمدن الكبرى مثل تل بسطة (الزقازيق)، وصا الحجر (الغربية)، وأبيدوس (سوهاج)، وعين شمس (القاهرة).
 
      ولقد ورد في برديتي "إدوين سميث" و"إيبرس" أن كاهن الإلهة "سخمت" في "تل بسطة" كان متمرسًا في الطب، كما ورد في نفس البرديتين مقولة "إن الأصل في الطب هو القلب، وعندما تفحص (موجهًا القول للطبيب) أي عضو من أعضاء الجسد، فإنك يجب أن تعلم كثيرًا عن القلب".
 
ومن "سايس" (صا الحجر) يقول كبير الأطباء "وجا حر سنب": "أمرني جلالة الملك أن أُعنى بمدرسة الطب بكل فروعها، وأننا يجب أن نختار أحسن الطلاب لدراسة هذا العلم، وأن نمدهم بكافة احتياجاتهم".
 
وفي هليوبوليس – كما ورد في بردية هرست- فإن طبيبًا من "بيت الحياة" كان متخصصًا في علاج الأمراض الناتجة عن الشياطين الشريرة.
 
الالتحاق بمدارس الطب
     
كانت هناك بعض الشروط التي يجب أن تتحقق في الطالب الذي يريد أن يدرس الطب، ومن أهمها:
- التفوق في مراحل التعليم السابقة.
- أن يكون من عائلة ميسورة.
- أن تكون لديه معلومات جيدة في الدين والسحر والمعارف العامة.
 
      فالتعليم الجيد والإلمام بالخبرات والتجارب كانت أمورًا ضرورية لتمكين الطالب من استيعاب دروس الطب والصيدلة، أما القدرة المادية فكانت هي الأخرى ضرورة حتى يتمكن الطالب من الإنفاق على دراسته، وشراء الوسائل التعليمية من أجهزة وأدوات ومواد وأوراق بردي.
 
      وكانت هناك على الجانب الآخر دقة في اختيار المدرسين، حيث عثر على بعض الوثائق التي تشير إلى إعداد دورات تدريبية للقائمين على أمر التدريس.
 
الأطباء
 
      وردت كلمة Swnw في اللغة المصرية القديمة، ومعناها "طبيب"، وطبقًا لنصوص مصرية قديمة فإن من يحمل هذا اللقب ويشغل هذه الوظيفة كان يجب أن يكون مؤهلاً وموهوبًا إلى حد كبير، وكان بوسع الطبيب أن يحمل ألقابًا أخرى تمثل أعمالاً أخرى يمارسها إلى جانب الطب مثل "الكهانة".
وكان هناك أربع درجات من الأطباء هي:
 
- الطبيب.
- كبير الأطباء.
- مفتشو الأطباء.
- مدير الأطباء.
 
       والواضح أن كلمة Swnw تشير إلى طبيب بوجه عام، سواء أكان ممارسًا، أم جراحًا، أم طبيب أسنان، أم بيطريًّا، أم صيدليًّا..إلخ. وكان الطبيب يعتبر في المراحل الأولى من عمله طبيبًا ممارسًا، وبعد سنوات من الخبرة يبدأ مرحلة التخصص.

          
                                                       تمثال كبير الأطباء "ني عنخ رع"
 
 
ولعل أقدم مثال لطبيب في مصر القديمة هو "حسي رع" من الأسرة الثالثة، وكان طبيب أسنان، وعثر على مقبرته في شمال سقارة.
 
وإلى جانب طبيب "بيت الحياة" كان هناك أطباء القصر المكلفون برعاية الملك والأسرة المالكة، وكانوا يتمتعون بمميزات اجتماعية واقتصادية غير عادية، حيث كانوا يعيشون في رغد من العيش كما نرى في مقابرهم التي صُوِّرُوا فيها وهم يتلقون الهدايا والهبات من الملوك، بالإضافة إلى تقلدهم أوسمة.


                                           الطبيب حسي رع - الأسرة الثالثة
 
 
       وكان الأطباء يتواجدون في أماكن عمل مجموعات من البشر، كالمناجم والمحاجر وإقامة المنشآت الكبيرة (المعابد– المقابر– القصور)، وكانوا يعالجون الأمراض المختلفة إلى جانب حالات السموم الناجمة عن لدغ الثعابين والعقارب.
 وتذكر النصوص المصرية القديمة أن بعض ملوك مصر كانوا يوفدون إلى حكام سوريا وبلاد النهرين أطباء مصريين لعلاجهم بناءً على طلبهم.
 
       ولقد طبقت شهرة الأطباء المصريين في الخارج الآفاق بسبب خبرتهم ومهارتهم في التعامل مع بعض الحالات المرضية الصعبة، ونذكر على سبيل المثال أن الملك رمسيس الثاني تلقى رسالة من ملك الحثيين تتعلق بأخته التي لا تستطيع أن تنجب.
 
وقد رد عليه الملك رمسيس الثاني بأن أخته قد بلغت من العمر 60 عامًا، ولهذا لا تستطيع أن تنجب، ورغم ذلك فسوف يبعث بأحد أمهر أطبائه وأفضل الأدوية. وكان الأطباء يمضون في الخارج فترات قصيرة أو طويلة في بعض الأحيان؛ حسب عدد المرضى وطبيعة مرضهم، وكانوا ينالون الهدايا والهبات مقابل عملهم.
 
مصادر الطب المصري القديم
 
       كان من المتوقع أن نعثر على مئات البرديات التي تتعلق بالطب، لكن ورق البردي لا يحتمل كثيرًا عوامل الزمن وعبث الإنسان، ولهذا فإن ما احتفظ لنا به القدر من برديات طبية لا يزيد كثيرًا عن عدد أصابع اليدين، ولعل أهمها:
 
 
-             بردية اللاهون
-             بردية هرست
-             بردية إيبرس
-             بردية برلين
-             بردية إدوين سميث
-             بردية لندن
-             بردية ليدن
-             بردية كارلسبرج
-             بردية شستر بيتي
 

 وهي برديات تتضمن معلومات عن أمراض مختلفة، ووصفات طبية، وأعشاب طبية، وتعاويذ سحرية، وتمائم ضد الأرواح الشريرة.

 
جزء من بردية إدوين سميث
 
 
 
 
بردية هرست
 
وإلى جانب البرديات الطبية، هناك المومياوات التي كان من بين النتائج الهامة للكشف عنها بكل مستويات أصحابها الاجتماعية والاقتصادية - التعرف على بعض الأمراض وفحص كل أعضاء الجسد، مما أدى إلى توفر الكثير من المعلومات عن التشريح والجراحات والعلاج ..إلخ.
 
 
بردية اللاهون الطبية
 ثم هناك النقوش والمناظر المسجلة على جدران بعض الآثار مثل المعابد والمقابر، مثل منظر ختان الذكور في مقبرة "عنخ ماحور" بسقارة، والمقابر التي تخص أطباء، والتي ورد فيها ذكر لوظائفهم ودورهم في هذا الميدان.
 
 
وإلى جانب ذلك فقد عثر على أطلال بعض المصحَّات، كما أشير إلى دور البعض الآخر في النصوص المصرية التي وردت على بعض معابد العصور المتأخرة وأخيرًا هناك عشرات الأدوات الطبية، التي عثر عليها والتي يحتفظ بها في المتاحف المختلفة، بالإضافة إلى ما سجل منها على جدران الآثار المصرية.
 
  
 
 
 منظر الأدوات الطبية الشهير بمعبد كوم أمبو
 
خطوات التعامل مع المرض
 
      حدَّد الطبيب المصري القديم لنفسه مجموعة من الخطوات ليصل بها إلى إمكانية التشخيص واقتراح العلاج، وهي:
 
 تحديد الحالة.
 الفحص الإكلينيكي بالشم واللمس والضغط بالأيدي والحوار مع المريض.
 التشخيص.
 تحديد العلاج أو إجراء جراحة إن كانت هناك ضرورة.
 متابعة الحالة بشكل دوري.
 
 
 
 
 
الأمراض
 
       تضمنت البرديات الطبية المشار إليها سابقًا العديد من الأمراض التي أمكن للأطباء تشخيصها والتعامل معها، وهي:
 
-      أمراض الرأس
-      أمراض الأنف والأذن والحنجرة
-      أمراض الأسنان
-      أمراض العيون
-      الأمراض الباطنية
-      أمراض الشرج
-      أمراض الأورام
-      أمراض النساء
-      أمراض القلب
-الأمراض العصبية
-الأمراض الجلدية
-أمراض المسالك البولية
-أمراض الصدر
-أمراض العظام
-أمراض سوء التغذية
-أمراض الأطفال
 
 
العقاقير
 
      جاء التطور في مجال العقاقير موازيًا للتطور في مجال الطب، ولقد اعتمدت العقاقير على النباتات والحيوانات والمعادن. فمن بين النباتات: "البصل، والثوم، والبردي، والجميز، والخيار، والبقول، والبطيخ، والبلح، وزيت الخروع، والخس، والنخيل، والدوم، والرمان، والشعير، والصمغ الأبيض، والبابون، والبقدونس، والسنط، والزعفران، والعنب، والفجل، والقرفة، والقمح، والكتان، والكمون، والبخور، والمر، والنعناع".... إلخ.
 
 
وقد بلغ عدد النباتات والخضروات والفواكه المستخدمة في إعداد العقاقير تسعين نوعًا.
 
  
           
بعض النباتات التي كانت تستخدم لصنع العقاقير الطبية أيام المصريين القدماء
 
 
وأما عن الحيوانات والزواحف والحشرات، فقد بلغ عددها اثنين وعشرين نوعًا؛ من بينها "القطط، والفئران، والحشرات الطائرة، والديدان، والأسماك، والضفادع، والنحل، والقواقع....إلخ".
 
وأما عن المعادن والمواد العضوية فقد بلغ عددها حوالي خمسة وعشرين نوعًا؛ منها "الإسفلت، والجبس، والقار، والمغرة الصفراء، والمغرة الحمراء، والملاخيت، والنطرون، وأكسيد الحديد، وأكسيد النحاس، وغيرها."
 
 
 
التحنيط والطب
 
        ليس هناك من دليل على تقدم الطب في مصر القديمة أكثر من تحنيط الآدميين والحيوانات والطيور والزواحف والحشرات، الأمر الذي يعني فهمًا واضحًا للتشريح والعلاج والحفاظ.
      
ولقد ظل التحنيط يتطور عبر التاريخ المصري القديم، حيث كانت البداية محاولات للحفاظ على الأجساد، وبمرور الوقت وبالمزيد من الدراسات والتجارب تم التوصل إلى التحنيط الذي يعد من أبرز العلامات على طريق الحضارة المصرية القديمة. وكان فريق التحنيط يتكون من أطباء وأخصائيين في التشريح، وفي كيفية التعامل مع أجزاء الجسد المختلفة للحفاظ عليها.
 
 
                                              مجموعة من مواد التحنيط – متحف التحنيط- الأقصر
 
آلهة الطب
 
      لم تعرف الحضارة المصرية القديمة إلهًا محددًا للطب، وإنما ارتبط الأمر بعدد من الآلهة والإلهات، ومن بينهم:
-              الإله "حوتي" إله الحكمة والمعرفة 
-              الإله "بتاح" إله الفنون والحرف 
-              الإله "حور" والإله "أمون"
-              الإله "خونسو"
-              الإلهة "إيزة" أو "إيزيس"
-              الإلهة "حاتحور"
-              "إيمحتب" مهندس الملك زوسر
 
              
 
الطبيب والمعماري "إيمحتب"
      
وأخيرًا فإن التقدم الذي وصل إليه الطب في مصر القديمة ما كان يمكن أن يحدث دون الكثير من العوامل المساعدة، وعلى رأسها اهتمام الدولة بصحة مواطنيها، ونظافة البيئة التي يعيش فيها الإنسان المصري، الأمر الذي حدثنا عنه بعض النصوص المصرية القديمة، وذلك ما ساعد على أن يكون المجتمع صحيحًا معافًى.
     
ولقد نال الطب المصري القديم شهرة كبيرة لدى الدول المجاورة مثل "سوريا، وبلاد النهرين، وفارس، وخيتا، وفينيقيا"، وهي الدول التي لجأت لمصر لكي تمدها بالمتخصصين في بعض الأمراض لعلاج حالات لديها.
 
والمعروف أن اليونانيين تعلموا كثيرًا من المصريين في مجالات التشخيص الطبي والجراحة والعلاج والعقاقير، وهو أمر يقرونه في مصادرهم.
 
         إن إنجازات الحضارة المصرية ليست – كما يبدو للبعض- مقصورة على العمارة والفنون، ولكنها إنجازات في مجال العلوم بوجه عام، وفي الطب بوجه خاص، ما يجعلنا نفاخر به بين الحضارات القديمة الأخرى.
 
تعليقات
الاسمبريد إلكترونيرسالة